المهر والامتحان الصعب
[ بين المهلب بن أبي صفرة وابن خيه]
المهلب بن أبي صفرة، سيد الأزد، الفارس الكمي الصنديد الداهية، وبطل حرب الخوارج المشهور في عهد الدولة الأموية، وهذا إلى جانب شهرته بالكرم، وكان للمهلب ثلاثة أبناء كلهم فرسان وأبطال وأجواد،وكان له بنت أيضا، ولكن التاريخ لم يحفظ لنا من أخبارها سوى أنها عندما بلغت، تقدّم ابن عمها لخطبتها من أبيها.
وكان ابن العم هذا فارس أيضا، وأحد المقاتلين الشجعان في صفوف جيش عمه المهلب بن أبي صفرة، وأحد سيوفه القاطعة التي يضرب بها الأعداء من الخوارج، المعروفين بشدتهم وشراستهم في ميادين القتال، واسمه بشر بن المغيرة بن أبي صفرة.
في غضون ذلك كان هناك مدينة في إقليم فارس، لا تزال تحت سيطرة الخوارج، وكانت من المنعة بحيث استعصى فتحها، ورُدت الحملات التي كان يبعثها المهلب إليها عدة مرات من تحت أسوارها، وكان المهلب قد أعد حملة جديدة لفتحها، ولكنه كان يبحث عن قائد مناسب لقيادتها.
ولذلك فإنه عندما تقدّم إليه ابن خيه لخطبة ابنته رد عليه، بأنه موافق على أن يزوجه بابنته، ولكن بشرط أن يقود هذه الحملة وأن يفتح تلك المدينة المنيعة، وأخبره بأن هذا هو المهر الذي يطلبه لابنته. واشترط عليه أيضا أن لا يعود إليه إن أخفق في فتح المدينة.
فأبدى الفتى موافقته على هذا الشرط، بكل رضا وسرور، بل وأبدى حماسة كبيرة لإنجاز هذه المهمة.
ولم يكن المهلب بهذا يدفع بابن أخيه وخاطب ابنته لخوض مغامرة عسكرية بغية أن تكون نهايته فيها، ولكنه كان يعرف أنه أهل لذلك، إنما هو أراد أن يحفزه ويجعله يستغل أقصى ما لديه من مواهب وقدرات عسكرية لفتح هذه المدينة المنيعة.
وما لبث الفتى حتى تجهز للخروج، وزوده عمه بكل ما يحتاج إليه من جنود وعدد وعتاد ومؤن، وعندما خرج خرجت المدينة كلها لوداعه وعلى رأسها عمه المهلب وأبنائه الثلاثة.
وهكذا تقدم الفتى على رأس الحملة، وضرب الحصار حول المدينة المنيعة، ومازال مقيما عليها حتى وفقه الله في فتحها، بعد معركة شرسة قتل فيها من قتل وجرح فيها من جرح، وأصيب هو فيها ببعض الجروح ، ولكنها لم تكن بالغة. ولذلك وبعد أن رتب حامية في المدينة أسرع بالعودة إلى المكان حيث يقيم عمه وهو مسرور نشوان وكيف لا وقد نجح في الامتحان ووفى بالشرط الذي طلبه منه عمه
وكان الفتى قد بعث رسولا إلى عمه المهلب يبلغه بخبر الفتح. ولذلك كان يتوقع أن تخرج المدينة كلها لاستقباله، والصبايا تنثر فوقه الورود، تقديرا له، وإعترافا ببطولته، وابتهاجا بهذا الانتصار الكبير الذي حققه.
بيد أن عمه المهلب بن أبي صفرة، القائد المحنك الداهية، كتم الخبر عن الناس، واستدعى ابناءه الثلاثة: المهلب بن المهلب، والمغيرة بن المهلب، ويزيد بن المهلب، وأمرهم أن يقابلوه بجفوة وبخشونة إذا أتاهم ، ولا يقدموا له شيئا.
فلما عاد الفتى إلى عمه لم يجد أحدا في استقباله، ووجد السكون يخيم على المدينة، حتى لكأن أخبار الانتصار لم تصل إليها، فانقبض قلبه، واعتراه شعور غريب، فأسرع إلى دار عمه، ولكن الحرس أبوا أن يسمحوا له بالدخول إليه وأقفلوا الأبواب دونه، وكانت صدمة طار منها صوابه وكاد أن يزيغ عقله، فذهب إلى بيت المهلب ابن عمه عله يجد تفسيرا لهذا، ولكن المهلب قابله بجفوة، ولم يشف غليله ولو بكلمة، ثم ذهب إلى المغيرة ابن عمه الآخر ، فلم يحسن استقباله أيضا، ولم يعرض عليه حتى شربة ماء، وكذلك فعل ابن عمه الثالث يزيد.
وبعد ذلك عاد الفتى إلى بيته وانزوى في إحدى زواياه وهو في قمة الحزن والكآبة، والأسئلة تتقافز في رأسه عن سبب هذا الاستقبال الغريب الذي استقبل به، معقول أن يكون هذا جزاؤه؟ معقول أن يكون عمه قد تراجع عن شرطه؟ معقول أن لا يراه أهلا للزواج من ابنته؟ ولكن هذه الأسئلة وغيرها لم يجد لها أي جواب..حتى استقر أخيرا على أن عمه قد تراجع عن شرطه وأنه ما فعل هذا إلا لكي لا يزوجه بابنته. فماذا فعل؟
لقد كان يمكن أن يطيش صوابه وأن يقدم على أي عمل متهور، ولكنه استعاد رباطة جأشه والتزم بالعقل، وبعث إلى عمه يعاتبه بهذه الأبيات:
رأيت المهلب والمغيرة قد جفا --- وأمسى يزيد لي قد ازور جانبه
وكلهــــمُ قد نال شبعا لبطنه --- وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
فيا عم مهلا واتخذني لنــوبة --- تنوب فإن الدهــــر جـــم نوائبـه
أنا السيف إلا أن للسيف نبوة --- ومثلي لا تنبو عليك مضـــاربـه وعندما قرأها المهلب بن أبي صفرة ، تهلل وجهه فرحا، وبعث إليه من يحضره، وعرف الفتى أن هذا هو الامتحان الحقيقي الذي أراد عمه أن يمتحنه فيه وهو رباطة الجأش والتريث وعدم التهور أو التسرع . وبعد ذلك بلغه ما يريد، فأقيمت الأفراح والليالي الملاح..والله أعلم
لا يُنـال الخيـر بالشـرِّولا**يحصـدُ الزارعُ إلا مـا زرعْ